من أوجه الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم أشرف الألفي 🇪🇬

 

مشاهد من القرآن الكريم



من أوجه الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم 


 وما قصه علينا سبحانه من نبأ موسى عليه السلام وقومه.


قال تعالى: 

{وإذا استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} 

(البقرة:60)، 

وقوله سبحانه في موضع آخر:

 {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا} 

(الأعراف:160) .


والذي نريد أن نتوقف عنده من هاتين الآيتين، قوله تعالى: {فانفجرت منه}، وقوله سبحانه: {فانبجست منه}، من جهة مدلول هذين اللفظين لغة، ومن جهة الفروق الدلالية بينهما.

وبالتالي الوقوف على شيء من أوجه البلاغة فيهما .


ولاشك أن سمو الجانب البلاغي في القرآن الكريم غاية في الوضوح، حتى إن المتخصصين ببيان أوجه الإعجاز القرآني، اعتبروا هذا الجانب من جوانب الإعجاز المتعددة التي جاء عليها القرآن، وهي تدل على عظمته، وأنه كتاب منـزل من رب العالمين؛ لهداية الناس أجمعين.


تفيد معاجم العربية أن مادة (فجر) تدل على التفتح في الشيء، ومن ذلك سمي الفجر؛ لانفجار الظلمة عن الصبح. ومنه كذلك انفجار الماء: وهو تفتحه وخروجه من محبسه.

والفُجْرَة: موضع تفتح الماء.


 ثم تُوسِّع في هذه المادة حتى سمي الانبعاث والتفتح في المعاصي: فجوراً. 

وسمي الكذب فجوراً. وكثر هذا الاستعمال حتى سمي كل مائل عن الحق: فاجراً، 

ثم خُص لفظ (الفجور) بالزنا واللواط والخصومة وما أشبه ذلك من المعاصي.


أما مادة (بجس) لغة فتدل على الانشقاق.

قال الخليل: "البجس: انشقاق في قُربة، أو حجر، أو أرض ينبع منه الماء، 

فإن لم ينبع فليس بانبجاس"؛ وعليه قالوا:

 السحاب يتبجس بالمطر، أي: ينشق فيخرج منه الماء. ثم توسعت العرب في دلالة هذه المادة،

 فقالت: رجل منبجس، أي: كثير خيره.


وقد ذكر الخليل أن مادة (بجس) لفظ عام، فيقال: انبجست عين الماء، وانبجس السحاب، وانبجس سَكْر النهر (ما يسد به النهر)، ونحو ذلك.


ثم إن أغلب المفسرين لم يذكروا فرقاً بين هذين اللفظين، بل فسروا كلاً منهما بالآخر؛ قال البغوي: "قال المفسرون: انفجرت وانبجست: بمعنى واحد". وقال الآلوسي: والظاهر استعمالهما بمعنى واحد. وجعل ابن الجوزي هذين اللفظين من الألفاظ المُبْدَلة، بمعنى أن كل واحد من اللفظين يقوم مقام الآخر. هذا ما يفيده كلامه، حيث أدرج هذين اللفظين تحت عنوان: باب في الحروف المبدلات، ومراده من هذا العنوان: ذكر الألفاظ التي يقوم بعضها مقام بعض، وهذا ما يُعرف بالترادف.


وقد ذكر الراغب الأصفهاني بهذا الصدد


 أن "الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق، والانفجار يُستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع،

 ولذلك قال عز وجل: {فانبجست منه اثنتا عشرة عينا}، 

وقال في موضع آخر: {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا}، 

فاستعمل حيث ضاق المخرج (العين) اللفظين،

 وقال تعالى:

 {وفجرنا خلالهما نهرا} (الكهف:33)،

 وقال تعالى : 

{وفجرنا الأرض عيونا} (القمر:12)، 

ولم يقل بجسنا".


ومراد الراغب هنا: أن لفظ (الانبجاس) أخص من لفظ (الانفجار). فكل انفجار انبجاس، من غير عكس.

 فلما كان خروج الماء في آيتي البقرة والأعراف من مكان ضيق، وهو (العين) جاء باللفظين معاً: {فانبجست}، و{فانفجرت}؛ لاستعمال لفظ (الانبجاس) فيما يخرج من مكان ضيق، واستعمال لفظ (الانفجار) فيما يخرج من مكان ضيق وواسع معاً.

 ولما كان خروج الماء من مكان واسع، كالنهر والبحر، جاء بلفظ (الانفجار) فحسب.

كما في قوله سبحانه:

 {وفجرنا خلالهما نهرا}، 

 وقوله تعالى:

 {وفجرنا الأرض عيونا}.

 لاستعمال لفظ (الانفجار) فيما يخرج من مكان واسع .


ثم إن البغوي ذكر فرقاً بين اللفظين قريباً مما ذكره الراغب، فقال: "انبجست، أي: عرقت. وانفجرت، أي: سالت". 

وعبر عن هذا الفرق ابن عطية، 

فقال: "الانبجاس: أخف من الانفجار".

وعبر عنه الآلوسي بقوله: 

"الانبجاس: أول خروج الماء؛ والانفجار: اتساعه وكثرته".


وذكروا فرقاً ثالثاً.

 فقالوا: "الانبجاس خروجه من الصلب، والآخر خروجه من اللين"، يعني: أن الانبجاس يكون في شيء قاس، كالحجر والصخر؛ والانفجار يكون في شيء لين، كالأرض الرخوة.


وتأسيساً على ما تقدم من فروق لغوية بين اللفظين.

ذكر بعض أهل العلم وجهاً بلاغياً للآية.

فقال: لما كان طلب السقيا في سورة الأعراف من بني إسرائيل، ناسبه الإتيان بلفظ يدل على الابتداء، فقال جواباً لطلبهم: {فانبجست}، الدال على ابتداء خروج الماء.

 ولما كان طلب السقيا في سورة البقرة من موسى عليه السلام غاية لطلبهم؛ لأنه واقع بعده ومرتب عليه، قال إجابة لطلبه: {فانفجرت}، الدال على الكثرة والاتساع.

 فناسب الابتداءُ الابتداءَ، وناسبت الغايةُ الغايةَ.


وقريب من هذا.

 علل بعض أهل العلم المعاصرين اختلاف اللفظين في الآيتين، 

فقال: (الانفجار) أبلغ؛ لأنه يعني انصباب الماء بكثرة.

أما (الانبجاس) فهو ظهور الماء، ولو كان قليلاً، وهو يسبق الانفجار؛ لأنه أوله، وقد أتى بـ (الانفجار) 

في سورة البقرة.

لأنه استجابة لاستسقاء موسى عليه السلام:

 {وإذا استسقى موسى لقومه}

 ولذلك أمرهم في آية البقرة بالأكل والشرب.

 وأتى بـ (الانبجاس) في سورة الأعراف. 

لأنه استجابة لطلب بني إسرائيل استسقاء موسى عليه السلام لهم: {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه}.

ولذلك أمرهم بالأكل فحسب.


وقد أرجع السيوطي في "الإتقان" اختلاف اللفظين إلى سياق الآيتين، لا إلى دلالتهما اللغوية، فقال: "في البقرة: {فانفجرت}، وفي الأعراف: {فانبجست}؛ لأن (الانفجار) أبلغ في كثرة الماء، فناسب سياق ذكر النعم التعبير به

"، يقصد بذلك: أن سياق الآية في البقرة، جاء فيه ذكر النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل،

 وذلك قوله تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم}

 (البقرة57)،

 وقوله أيضاً: {فكلوا منها حيث شئتم رغدا}

 (البقرة58)، 

غير أن هذا التعليل منتقَض من جهة أن السياق الذي جاءت فيه آية الأعراف، فيه أيضاً ذكر للنعم.

قال تعالى: {وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم}.


 بقي أن نشير هنا إلى لفتة بلاغية في الآيتين، وهي أن كلا اللفظين (الفعلين) في الآية دخل عليه حرف (الفاء).

 وقد توقف المفسرون عند هذه (الفاء)، وبينوا موقعها، والمراد منها، فقالوا: (الفاء) في الآيتين هي الفصيحة، سميت بذلك.

 لأنها تفصح عن فعل محذوف

 إذ التقدير: فضرب {فانفجرت}، فضرب {فانبجست}؛

 قال ابن جني: فاكتفى بالمسبَّب الذي هو (الانفجار) من السبب الذي هو (الضرب). وحَذْف الفعل في القرآن كثير،

 منه قوله سبحانه: 

{فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة او نسك}

 (البقرة:196)،

 وتقديره: فحلق ففدية. ونحوه أيضاً قوله سبحانه:

 {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق}

 (الشعراء:63)، أي: فضرب فانفلق.


ختاما نستخلص من ذلك.


هنا تعبير (انبجست)، وهناك تعبير (انفجرت)، ونعلم أن الانبجاس يحدث أولاً ثم يتبعه الانفجار ثانياً، فالانبجاس أن يأتي الماء قطرة قطرة، ثم يأتي الانفجار وتتدفق المياه الكثيرة، فكان موسى عليه السلام أول ما يضرب الضربة تأتي وتجيء المياه قليلة ثم تنفجر بعد ذلك.

 إذن فقد تكلم الحق عن المراحل التي أعقبت الضربة في لقطات متعددة لمظهر واحد؛ له أولية وله آخرية.


وحين تكلم أمير الشعراء عن عطاء الله وقدرته قال:


سبحانك اللهم خير معلم ** علمت بالقلم القرون الأولى


أرسلت بالتوراة موسى مرشداً ** وابن البتول فعلَّم الإِنجيلا


ثم جاء لسيدنا محمد وقال:


وفجرت ينبوع البيان محمداً ** فسقى وناول التنزيلا


ثم يأتى التوفيق الرائع في العبارة حين قال: (فسقى الحديث)، فالحديث سقيا أما القرآن فمناولة من الله لخلقه. 

والحق يقول: {فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً}.

إن الضربة واحدة من عصا واحدة، وكان المفترض أن تحدث هذه الضربة عينا واحدة تنبع منها المياه، لكن الحق أرادها اثنتي عشرة عينا وعلم كل أناس مشربهم؛ لذلك كان لابد أن يكون المكان متسعاً.

وأن هذه الضربة كانت إيذاناً بالانفعال من الأرض.

 {فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ...} [الأعراف: 160].

 ويكون هناك سؤال ؟

من أين عرف كل قسم منهم الماء الذي يخصه؟

 إنها قسمة الله وصارت كل عين تجذب أصحابها، فلم يتزاحموا، وهذا يدل أيضاً على التساوي، فلم تنفجر عين بماء أكثر من الأخرى فتثير الطمع، لا، بل انتظم الجميع فيما أراده الحق:

 {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}.


والحق سبحانه وتعالى هنا يتكلم عن رحلة بني إسرائيل في التيه، وفي الصحراء والشمس محرقة، ولا ماء، فاستسقوا موسى، فطلب لهم السقيا من الله، وجاءت لهم اثنتا عشرة عينا حتى لا يتزاحموا، وعرف كل منهم مشربه.


وإن القول بعدم ترادف الألفاظ القرآنية، وأن كل لفظين مترادفين يحملان دلالة مشتركة، لا بد أن يكون وراءها وجه من الدلالة مغاير، أو زائد.

نقول: إن القول بذلك هو الأليق بالنظم القرآني.

 وهو الأنسب للقول بالإعجاز البياني والبلاغي في القرآن الكريم.

 كلام رب العالمين.


دمتم سالمين 

اللهم علمنا ماينفعنا وأهدنا سبيل رشد ورشاد. 

تحياتي

أشرف الألفى

إرسال تعليق

0 تعليقات