رواية تلات ورقات
د منال الشربيني
الفصل الرابع
ارتعش الصباح في بيت أم العبد مبكرًا، أو أظنني رأيته هكذا، ومضى مترنحًا، وراح يطرق باب غرفة أحلام. ثم دق السائق الذي سيقلها إلى محل الكوافير جرس الباب الخارجي للدار ففتحت عينيها. كان شعرها المصبوغ بلون دم الغزال، يضفي لون العناب على وجنتيها ويديها وساقيها اللتين خرجتا من الشورت الأسود، كأنهما صنعتا من البللور؛ ممشوقتان كأنهما لحورية. كانت بشرتها بلون الحنطة الممزوجة بعسل النحل الجبلي، وكنت قد صعدت إلى دار أم العبد بعد أن غادر زوجي إلى العمل، كالعادة. لا فائدة من البقاء وحيدة في كل هذا المنزل. اليوم هو عرس أحلام، ولأول مرة أشعر بوخز في قلبي، ودمعة محبوسة في مقلتي، تفر كي تعود لتفر. لقد عشت بينهم خمس سنوات كاملة أختًا كبرى بالفعل، يا الله، لكم أنتم طيبون يا آل أبو العبد. رحت أفكر كيف أنني سأجيء هنا غدًا، فلا أجد أحلام، وسألت نفسي: ترى! هل أم العبد سعيدة بهذا الزواج بالفعل، أم انها فعلت الصواب لحماية ابنتها من تهور سن المراهقة، لا سيما وأنها الصبية الوحيدة، التي تمردت على الواقع، وخرجت عن وعيها، ولم تعر التقاليد اهتمامًا حين شعرت بميل للجنس الآخر.
ياإلهي، آااه، لماذا أشعر بكل هذا الوجع، بمجرد أن يبدأ تفكيري في رحيل أحلام؟. أجابني قلبي:"ربما لأننا نحن المصريين عاطفيون للغاية، وينساب منا الحنان طالما للنهر في مصر متسع لحياة"، ولم يخرجني من شجني، غير صوت أحلام:
- صباح الخير سيدة ريم!
- صباح النور يا حياتي، صباح الحلوات.
- "تسلمي يا نشمية، سأفتقدك جارتنا. يعز علي كل شيء هنا يا ست ريم. سأفتقد كل شيء هنا،سأشتاق إلى رائحة دارنا السلالم، سطح الدار، النوافذ المطوية قبل المفتوحة، أمي أبي، أخواتي، والصغير." فأوجعني قلبي للغاية، وتذكرت بكاء أمي وأخوتي حين ودعوني قبل مجيئي إلى هنا؛ أتذكر جيدًا، كيف أن أخويي الصغيران، لم يقويا على مصافحتى وعناقي، ولم يحملهما جسديهما، فجلسا القرفصاء فانحنيت إليهما، أرفعهما، وأعانقهما معًا، كنا نبكي كما لم نبك من قبل، قتلهم رحيلي، ودمرتنا جميعًا إلى الآن لحظات وداعي الأولى. وأتذكر كيف احمر وجه أمي من شدة الانفعال، وهي تودعني، وتتركني كما تقول دومًا:" بين يدي الله" أتذكر كيف كانت تشْتُّم رائحتي، ولا تملك إلا الدعاء والدعاء والدعاء، ونبهتني أحلام:
- سيدة ريم، ما بك؟
- لا شيء، ربما لم أنم جيدًا البارحة، لا شيء، هيا استعدي للكوافير، لقد جهزت لك أمك حقيبتك وفستانك، وحذاءك، وملابسك الداخلية، وكل شيء، من حقك أن تفرحي اليوم مقدار ما تشائين.
نهضت أحلام من مكانها، لتجلس على حافة الكرسي بجواري، تتدلى ساقاها الجميلتان عاريتان تمامًا، إلا من وشم أخذ ينساب على جانبي ساقيها، مستمتعًا بلون حنطي براق، كثيرًا ما رغبت النساء الأوروبيات في الحصول عليه لبشرتهن الباهتة، وضعت ساقها اليمنى فوق اليسرى وراحت تعيد خصلات شعرها إلى الوراء، ثم فركت عينيها وتثاءبت ملء فيها، أريد أن أحدثك قليلًا، تفضلي إلى غرفة نومي، فلما دخلنا، بادرتني قائلة:
- هل سأتألم؟ تلعثمت قليلًا قبل أن أجيبها، فقد لطمني سؤالها على أذني لطمة مفاجئة، ثم استجمعت قوة كلمات جدتي وأجبتها: لا. عليكما، فقط، أن تتفقا على لغة مشتركة بينكما أولا، بعدها سيكون كل شيء على مايرام، وسيكون الكون لكما. هزت أحلام رأسها ثم نهضت لتفتح النافذة، وبعدها، اتجهت إلى خزانة الملابس، فاختارت بنطالًا من الجينز الأزرق، وبلوزة بلون قلب البطيخ، ثم وضعت قدميها الصغيرتين في حذاء رياضي أبيض يزينه خطان ورديان على الجانبين، ثم خرجنا معا إلى البهو الكبير، حيث تجلس أم العبد، والجارات والقريبات، كانت "أم العبد" سعيدة للغاية لأن الله استجاب لها، وأرسل لأحلام عريس يخفف من وطأة التوتر الذي تسببه أحلام لها، كانت تمزح مع النساء اللواتي رحن يزغردن من وقت إلى آخر. كن يمْرُسْن "الجميد الكركي والخليلي"( والجميد هو مادة المنسف الأولية، تصنعها القرويات من اللبن، في مرحلة ما؛ ويقمن بتنشيفه، وتخزينه، وتتخذ كرات الجميد شكل كرات الجبن القديمة، التي يصنعها أهلنا في صعيد مصر) ولقد لاحظت أن للجميد والجبنة القديمة مذاق متشابه. راحت النسوة تمرسنه- تفركنه- بأيديهن استعدادًا لصنع غداء العرس الضخم، الذي هو المنسف بالطبع، وكنت قد اعتدت طبخه وتناوله. كنت قد أصبحت فلسطينية – أردنية- لبنانية-سورية إلا قليلًا، و"من عاشر الجوم"، حتى أنه أصبح وجبتي المفضلة التي إن لم أستطع إعدادها في بيتي، أذهب مع زوجي لنتناوله في مطعم القدس.
كانت أم العبد ترتدي نظارة سميكة، يطلقون عليها في مصر"كعب كباية". كنت أرى أنه من الطبيعي أن يتضرر نظرها بعد كل هذه الولادات التي أخبرتني عنها يومًا، حين كنا نجلس مع جارتنا أم جهاد في شرفتها المطلة على الشارع الرئيسي للقرية، قالت أنها ولدت كل بناتها ولادة طبيعية، ولكنها اضطرت للولادة القيصرية، حين فاجأها المخاض، وهي حامل في ابنها الصبي. كانت تقول: "حمل الصبيان جاسي، وولادتهم مُرّة" كنت أقشعر من فكرة الحمل والولادة، ولا أتخيل أن ذلك سيحدث معي، بينما أنا هنا وحدي. كنت أراها امرأةً حديدية؛ كنت أسمع وقع قدميها تدب فوق رأسي. يأتيني صوتها من خلال سقف غرفة نومي، حين تنهض مع الفجر، لتعد فطور زوجها وأولادها، قبيل خروجهم إلى المدارس. كنت أسمع قعقعة القدور، والملاعق، والأكواب، وهي تغسلها، فقد كانت نوافذ غرفة المطبخ تطل على نوافذ غرفة نومي. كنت أقول في نفسي: كيف يمكن لهذه المرأة أن تهتم بأمر كل هؤلاء القوم؟ وأتعجب. كان من الطبيعي أيضا، أن تزداد عصبيتها، حين تخرج عليها أحلام بأفعال جديدة، منافية للتقاليد، والأخلاق، وطبيعة الأنثى في الشرق.
كان لأحلام طريقة مغايرة تمامًا لكل ما تفعله تولين وتالا وتغريد اللواتي كن أكبر سنًا، وكانت تمارا التي تصغر أحلام بعام واحد، فائقة الجمال، لكنها خجولة إلى درجة لا توصف، كانت تخجل حين تعطس أمامنا، أو حين يعلو صوت عطستها؛ كانت تحاول تغيير الأمر بأن تنظر إلينا جميعًا ثم تضع يدها على أنفها وتفتعل السعال حتى تكسر حدة صمتنا، ثم تدخل المطبخ، وتبدأ في غسل الصحون. كنا نتعامل مع خجلها بكل الود، بينما حين تعطس أحلام أو تسعل، فإنها تضحك بصوت مرتفع، وتقفز فوق الكراسي، وتعاود تقليد صوت العطس مرةأخرى حتى يضحك الجميع مرارًا، كانت مختلفة بالفعل، فلم أرها يومًا وقد انحنت على رأس أمها، تقبِّلُه كما تفعل بقية أخواتها، كانت تشيح بوجهها عنها، حين لا يعجبها حديثها عن نضال، خاصة حين تكيل لها الشتائم، والنعوت، التي كنت أنا شخصيًا، أتمنى لأحلام الزواج من كل قلبي، كي يرحمها الله من ذلك اللسان المر.
لا أنسى حين دخلنا المطبخ جميعًا لنصنع الكعك قبل العيد الصغير، كنا جميعًا مشغولون بتكشيل العجين، وتقطيعه، ورصه في الصواني، وقد جلسنا إلى مائدة الطعام بالمطبخ، ما عدا أحلام. كانت فوق سطح الدار كالعادة، فقد كان الوقت قبيل المغرب بتوقيت نضال الذي يجوب الوادي بدراجته، ويرهق الطريق الدائري الذي يلف المدينة هبوطًا وصعودًا وحلزونيًا. تبادلنا جميعًا نظرات القلق، فقد كنا نخشى غضب أم العبد لو اكتشفت غياب أحلام، وكأنما نقول:" لو أن إحداكن تنادي أحلام، قبل أن نسمع وصلة الشتائم، والدعوات بالسخط، والمسخ، التي ستبدأ على لسان أمها بعد قليل. وبذكاء شديد، انسحبت خلود، وهي أصغر الفتيات العشر وكانت تبلغ من العمر ست سنوات حينها، وبعد قليل عادت ومعها أحلام، استغربنا جميعًا، كيف تسنى لخلود أن تقنع أحلام بالنزول، دون أن يكمل نضال جولته المسائية. وكعادتها المرحة، قالت أحلام وهي تبتسم، وتغمز بعينها لنا:" لا بد أن البوم قد حلق في المكان طويلًا، أو أن الخفافيش خرجت في النهار"، ضحكت كل منا سرًا، فنحن لا نريد أن نثير حفيظة الأم، لأنها لو انفلت عيار لسانها، ستكون كطلقات الرشاش، ولن يسلم من لسانها أحد حتى أنا، لأنني بالطبع سأبدأ في توزيع النصائح، والحكم على الكل، فأنا الأكبر والأعقل، وأم العبد كأي أم؛ لا تحب أن يوجد على وجه الأرض من هو أفضل من أولادها، وسرعان ما ستقول لي: " لو ان أمك أنجبت منك اثنتين لانعدل حال العالم". كنت أضحك بيني وبين قلبي، وودت لو قلت لها أنني بالفعل يمكنني فعل ذلك في عرف زوجي وأهلي.
كانت تولين كالعادة، تتمتم المنطق، والعقل صمتًا ولا تملك الجرأة على إبداء رأيًا مغايرًا لما تراه أمها. أما أنا، فلم تدرك أم العبد أن مصدر العقل والمنطق عندي آتيان من كوني تمتعت بأب وأم مثقفين للغاية، عاملوني بالمنطق، والعقل طوال الوقت، ناقشوني كثيرًا، في كل شيء، ومنحوني الوقت والثقة كي أعبر عما بداخلي حتى لو تعارض مع مفاهيمها، وإن كان لا بد لي من تغيير موقفي تجاه أمرٍ ما، فهو بالطبع بعد قناعة تامة مني، بأنهم يريان ما لا أرى، بحكم خبرتهما، فقد اقتنعت دومًا، أنني لن أحظى بحب مثل حبهما لي ما حييت. الأمر الثاني أنني أحظ بزواج ناجح جدًا، وزوج رائع يحبني، وحياة مستقرة، ماليًا، معنويًا، وصحيًا. لو أن شيئًا من هذه الأمور اختل، لأدخلني في معترك نفسي شرس، ربما أكون معه أكثر تمردًا من أحلام، ولربما فقدت عقلي، وتحدثت إلى نضال بنفسي أمام الجميع، ضاربةً بعرض الحائط كل شيء، لربما نزلت إلى أول الطريق في الوادي كي أنتظره، بل ربما ركبت خلفه على الدراجة لأجوب معه المكان ذهابًا، وإيابًا بينما أحتضن ظهره، ألف ذراعي حول خصره، وألتصق به كما لوكنت وشمًا دون أن ألق بالًا لأحد. ربما أصبحت أكثر شراسة في الدفاع عن حبي، حياتي، وشاب يجوب الوادي لأجلي؛ من أجل نظرة واحدة، يلقيها على خيالي، من وراء زجاج النوافذ. ولربما كنت أول من تزوجت عرفيًا في هذا المجتمع المنغلق، الذي لو طارت نظرات المرأة فيه عفوًا إلى ساق أحد الرعاة بينما يرفع طرف ثوبه بيده لرجموها حتى الموت. فأنا ذات طبيعة متمردة للغاية، أعرفني جيدًا، لقد قلت يومًا لابن عمي الضابط الصغير، وكان وقتها ملازم أول بالقوات المسلحة، أنني لا أحبه، وأنني أحب قريب صديقتي، ذلك المهندس الوسيم، وكنت أعتذر عن مقابلته دومًا. كان خاتمه في إصبعي لا يعني يا شيئًا، فهو ليس إلا حصيلة اتفاق رجلين: أبي وعمي، وليس حصيلة رضاي، وقبولي به زوجًا في المستقبل.
كنت أعتذر عن استقبالي له، وأختلق الأعذار حين يأتي لزيارتنا بعد شهر من الغياب،. وأتحجج له في شهر رمضان، بأنني لم أخرج لاستقباله فور مجيئه، لأنني كنت أصلي التراويح. وحين حاول لمس يدي، ليعبر لي عن حبه، اعتذرت له، وقلت له:" هذا حرام"، وتقمصت دور الدراويش، وقلت:" ليس مسموحًا للخطيب أن يلمس يد خطيبته، هذا حرامٌ بيِّن". بينما تختفي كل المواعظ والفتاوى التقويمية، حين تذوب يدي في يد ذاك المهندس، الذي أصبح زوجي فيما بعد. وحين حاول ابن عمي تقبيلي ونحن نصعد سلالم بيت أبي، مضطرين، لأن الكهرباء انقطعت فعطلت المصعد، تحولت إلى واحدة من قطط القمامة، وأبعدته عني بكل قسوة، وقلت له هذه سلالم بيتنا، وأنا أعرف جيدًا كيف أصعد وحدي، صعدت السلالم على طريقة الفئران قفزا وطيرانا حتى وصلت الدور السابع، فلما فتحت أمي الباب، رأيت أبي خلفها يسألني عن علاء، فقلت له أنه قادم خلفي، وهنا أدرك أبي أنني لا أرغب في إكمال هذا الزواج، فأرسل إلي أمي التي تبعتني إلى غرفتي، فأخبرتها أنه حاول سرقتكم، ورحت أكيل له الاتهامات وانعته بالتجاوز وخيانة الثقة، وأنه أهانني حين غافلتني ذراعاه لتحتضنني، وأنه غدر بي، ورحت أقول لها:" ثم ماذا لو رآني أحد الجيران، الذي ربما تصادف أنه صاعد خلفنا، أو سبقنا بدور أو اثنين؟" أتذكر يومها كيف قالت لي أمي وهي ترفع حاجبًا، وتخفض الثاني مستنكرة جرأتي في فضح ابن عمي الذي لم أفهم حبه جيدًا حينئذ:" لو أحببته لوجدت للأمر مذاقًا مختلفًا". فقد كانت تباهي قريباتنا بخطبتي لهذا الضابط الوسيم. وأقسم أن أم العبد نفسها كانت لتفعل الشيء نفسه لو أن فرصةً أتيحت لها.
علي أن أعترف الآن، بأن مرحلة المراهقة، تعد من أقسى المراحل التي يمر بها وعينا المدرك، ليترك في عقلنا الباطن، إدراكًا عميقًا، يجيد التحليل والتدقيق، لما سنكون عليه حين نبلغ من العمر مبلغ النضج. كما يترك فينا ألمًا لا يزول إلا بموتنا. نعم، ربما كنت سأصبح أكثر شراسة مع أمي، حين تمنعني بطريقتها القاسية والعدائية من رؤية نضال، وربما كنت سأتعمد كسر زجاج النافذة، حتى لا تغلقها أمي، وتمنعني رؤيته آتيًا إلي خصيصًا من جنوب الوادي، ثم ماذا لو لم تكن أم العبد نفسها زوجة الآن، أعتقد أنها ماكانت لتفوت فرصة حب جميل كحب نضال لأحلام، وربما كانت هربت مع حبيبها، من يدري؟ حين يتعلق الأمر بغيرنا، نحكم بقسوة، ونترفع عن كل شيء كما لوكنا ملائكة، وننسى أن الجنوح هو مادة الكون الأولية، ألم يعص آدمُ أمر ربَه؟
لم أك أرغب في استعراض قواي العقلية والمنطقية في الحوار مع أم العبد فيما يخص أمور بناتها. أردت فقط أن أخفف من حدة توتر الحوار بينها وبين أحلام. وفيما بعد أدركت أن أحلام هي المعادل الموضوعي لمنطقة اللاوعي لدي، ولدى أم العبد، ولدى كل فتاة قمعتها التقاليد، وحاصرتها الاتهامات كونها أنثى. بل هي الصمت الموجود بداخلنا جميعًا، حين لا نستطيع ترجمته على أرض الواقع. كان تعاطفي مع أحلام نابع من تعاطفي مع الجزء الصامت في داخلي، والذي تمنيت لو لم يمسسه أحد بسوء ما حييت. عرفت فيما بعد أنني كنت أحلام المقموعة في منطقة "اللاوعي" الذي أشعر أنه مدرك للغاية. هذا ما اكتشفته بالفعل. إنه المحرك الأساسي، والباعث النفسي، الذي منه ينطلق وعينا بالأشياء من حولنا، والذي منه تنطلق أحكامنا، وأفعالنا، وقراراتنا، وحتى جرائمنا، وتجاوزاتنا، صغرت أم كبرت. لم أك بدفاعي الخفي عن أحلام، أمام أم العبد، أقصد تحريض الفتاة على معاندة أمها، أو توريطها في الخروج عن العرف، والتقاليد الصارمة التي تعامل المرأة على أنها مجلبة للعار فقط ليس إلا. بل كان نقاشي معها محاولة لغلق الفجوة بين مفهومين أحدهما تقليدي مغلق؛ لا يرى إلا فلكة معلق فيها ساقان لفتاة، سوط مسلط على ظهرها، شعر يجذبه رجل، ويمسح به أرضية البيت، وفرج أنثى سيجلب العار والخزي، لا محالة، لأنها أطلت من النافذة لترى الطريق فكرًا مستنيرًا، يبحث عن آفاق رحبة، لروح تواقٍ للتغيير، متمردٍ على الأطر البالية، ومطالبٍ بحقه في الاختيار، الانطلاق، وتحديد المصير. لكنني أعترف بالطبع أنني فشلت، فقد استجاب الله لدعاء أم العبد ولم يعر حواراتي اهتمامًا. ليس لدي اعتراض بالطبع، فالله يحب الأمهات، ولا يرفض لهن طلبا، خاصة حين يتعلق الأمر بأولادهن، و......
قاطعتني أحلام:" سيدة ريم، كيفك اليوم، أين شردت منا؟ أراك ذهبت بخيالك إلى مصر"، قلت لا، أنا معكم هنا تمامًا، ولكني تحدثت مع الله قليلًا، ففتحت عينيها الوساع حتى خِلْتُ أنهما التصقا ببعضهما البعض، وقالت: حوار مع الله؟"، هل تجيدين الحوار مع الله مثلي؟، قلت: " أوتحاورين الله يا أحلام؟"، قالت: لا أنام قبل أن أحاوره، ويرد هو بدوره علي"، قلت نعم، هو يرد دومًا على من يقصد بابه، بطريقة أو بأخرى، قالت: بل، هو يحب المحاورة، لا أكتفي بدعاء وحديث أكون فيه أنا المتكلم فقط، نحن نتبادل الأدوار"، قلت:" يا إلهي، أحلام!،أوتفعلين ذلك حقا؟، قالت: لقد اكتشفت أن الله يحب المحاور الجيد".
تعجبت من كلامها كثيرًا، وقلت في نفسي أعلم أن بإمكان البراح أن يكون خير معلم للروح الإنساني، لأنه يوحي له صمتًا بما يعجز الكلام عن تبيانه، فرسائل الصمت تنقش على الروح حكمة، وتلبسه تاج معرفة مغاير للمألوف، ولقد تعلق قلب أحلام بالبراح، فلم لا؟، إنها تقول ما يجول في قلبي وروحي، نعم أنا أحاور الله كثيرًا، وأتبادل معه الأدوار؛ أحدثه فينصت، ويحدثني فأنصت. أسأله بالمنطق، وأدعوه أن يلبي حاجتي وفق ما وعدنا به، ومن باب" لقد قلت لنا يارب كذا فنريد كذا" يدور الحوار بيني وبينه. نعم، علي أن أحترم أن لأحلام حوار مع الله مفتوح. لم يك من المجدي بمكان، أن أناقش أم العبد في مدى وعي أحلام واختلافها عن بقية الفتيات هنا، فلقد نشأت أم العبد على الطاعة العمياء، لكل ما يحمل صفة ذكر؛ رأيتها حين تضع الطعام للأسماك في حوض السمك تبدأ برش الطعام فوق رءوس الجمع الذي تكثر فيه الذكران، أولًا، وتتلكع كثيرًا حتى تطمئن إلى ترضيتهم، وتستمتع حين تقترب الإناث في محاولة لالتقاط ما تيسر من فتات، ثم تذهب إلى آخر الحوض لترمي الطعام للإناث اللاتي يأتين سعيا، وتسبقهن الذكور دومًا فأشفق عليهن، وأنظر إلى وجه أم العبد فأراه منفرج الأسارير؛ فقد أرضت الذكور. حتى على مائدة الطعام، أراها تضع النصيب الأكبر من الطعام لعًبِدْ وأبيه أولًا، ثم يأتي البقية في المرتبة الأخيرة.
لا أدري لماذا استرجعت ذلك اليوم كما لو كان الآن؛ عمَّان؛ بلد عانقني بكل ما أوتي لبلدٍ من قدرة على العناق، طيران عاليا؛ مطار عمَّان الدولي، وحقائبي وبعد لحظات عانقاني، حتى شعرت أنني تبخرت، عمّان وزوجي. لم يكن قد مر شهران على زفافنا، لم أر يومها غيرهما، لا أعلم أيهما رأيت أولًا. دخلت بيتي، وللوهلة الأولى وقعت عيناي على الوادي والجبل وما شئت من مروج، لم يتح لي زوجي فرصةً فحملني، كان اليوم يمر طويلًا من دونه، تخرج روحي معه صباحا ولا تعود إلا معه، كنت أقضي اليوم أحاول استرجاع ماحدث، ودعتني أمي، أبي وأخوي الصغريين. كنت قد اخترته من بين الكثيرين من العرسان إذ لم يكن بالنسبة لي عريسًا والسلام، كان كل ما يمكن لفتاة أن تحلم به، لا أذكر أننا تشاجرنا يومًا، أو أنه تركني أنام دامعة. غلبني النوم دومًا على كتفه الأيسر، وغلبه الحب دومًا فكان وطن. كانت عمان بهية هادئة وطيبة. كان َلأهلها أخلاق القرية في مصر. سَكَنْتً بحي راق. لم يزل الأصدقاء يهاتفنني، ويحكين عن عمَّان؛ قالوا أنها اختلفت، وكثر الأغراب بها، ولكنها دومًا ستبقى المرأة التي عانقتني وزوجي حين هبط سلم الطائرة وقدم لي عمَّان، كان لجارتي أم العبد عشر بنات، وكان الولد هو حلم تلك المرأة وزوجها، وكأن كل من بالبيت من جميلات مجرد هواء، ما كنت لأجرؤ أن أتناقش معهما في ذلك ، فالعقل الجمعي أيضا لحقني إلى هناك...الولد، الصبي، والرجل. عمَّان بكل ما أحاطتني به من حبٍ، كانت تنحازُ إلى الرجال!
0 تعليقات